فصل: أمل ورجاء:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.العامل التاسع: تيسير الوسائل لحفظه في المساجد والكتاتيب والبيوت وغيرها:

ومن العوامل، أيضا تيسير الوسائل لحفظه فهذا المسجد الحرام، وهذا المسجد النبوي ومئات غيرهما في العهد النبوي، ثم ألوف، وألوف فيما بعد ذلك كانت عامرة بتلاوة القرآن، وبقراء القرآن المجيدين له، يتورعون عن أخذ الأجرة على تعليمه، ويرون في قيامهم بالإقراء حسبة لله منزلة ليس فوقها منزلة.
وقد ثبت في الصحيح أن الصديق بنى له مسجدا في بيته، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن حتى كاد يفتتن بقراءته نساء المشركين وأولادهم، وكان قد أجاره ابن الدغنة فذهبوا إليه واشتكوا من فعل الصديق، فنقض ما بينه وبين ابن الدغنة، ورضي بجوار الله عز وجل.
وهؤلاء هم أهل الصفة بالمسجد النبوي، كان من مهماتهم قراءة القرآن وحفظه، وإقرائه لغيرهم، وقد قدمت طرفا من ذلك.
وكان الصحابة قليلا من الليل ما ينامون، ولاسيما في رمضان، فلا عجب أن كان يسمع لهم دوي بالقرآن بالليل كدوي النحل في المساجد والبيوت وكان النبي صلوات الله عليه وسلامه يشجعهم ويرغبهم في التلاوة.
روى أبو عبيد بسنده عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن، قال: «تعلموا كتاب الله واقتنوه» قال: وحسبت أنه قال: «وتغنوا به فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من المخاض» من العقل.
وكذلك كانت بيوت الصحابة ومن جاء بعدهم معاهد علم؛ ومدارس قرآن فما من بيت إلا ويقرأ فيه القرآن؛ ويتدارس؛ وسواء في ذلك الكبار؛ والصغار؛ والرجال والنساء.
وكذلك كانت توجد الكتاتيب لتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة والكتابة؛ وقد أنشئت هذه الكتاتيب في عهد مبكر، وكان لها آثارها العظيمة في حفظ القرآن الكريم فقد ثبت وصح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ من القادرين من أسرى بدر الفداء؛ ومن لم يكن قادرا قبل منه تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة وطبعي أنهم كانوا يزاولون ذلك في مكان غير المسجد النبوي، لأن المشرك ممنوع من دخوله؛ ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس، قال: كان ناس من الأسرى يوم بدر لم يكن لهم فداء فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلموا أولاد الأنصار الكتابة فجاء غلام يبكي إلى أمه فقالت: ما شأنك قال: ضربني معلمي: فقالت: الخبيث يطلب بذحل بدر: والله لا تأتيه أبدا.
ثم أنشئت كتاتيب بعد ذلك؛ وكثرت كثرة خارجة عن الحصر حتى لا تجد مصرا أو بلدا إلا وفيه كتاب؛ وكتاتيب.
وقد كانت مصر- حرسها الله- بمدنها؛ وقراها، وكفورها ودساكرها ونجوعها غاصة بالكتاتيب؛ وفي هذه الكتاتيب حفظ ألوف الألوف القرآن الكريم، وقد كانت هذه الكتاتيب هي الروافد التي تمد الأزهر الشريف بألوف الطلاب كل عام؛ والكثيرون من هؤلاء صاروا أئمة في الفقه والفتوى؛ وفي التفسير؛ والحديث وعلوم اللغة واللسان، والعلوم العقلية والكونية، ومنهم من أثر في إصلاح حياة مصر، بل إصلاح حياة الدول الإسلامية والعربية دينيّا وسياسيّا، واجتماعيّا في العصر الأخير، وكان له الفضل الكبير في إزالة كابوس الاستعمار. والحكام الظالمين المستبدين كعرابي، ومحمد عبده، وسعد زغلول وغيرهم كثير.
وبعد هذا المطاف الطويل نصل إلى هذه النتيجة وهي أن القرآن الكريم توفر له من دواعي الحفظ له والمحافظة عليه ما لم يتوفر لكتاب قط لا في القديم، ولا في الحديث، ولا سماويّا، ولا أرضيّا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

.وجوب إحياء الكتاتيب:

مما ذكرت يتبين أن الكتاتيب كانت تؤدي خدمة عظمى في سبيل تحفيظ القرآن الكريم، ولم تكن فائدتها تقف عند حد تحفيظ القرآن فحسب، بل كانت من أعظم الوسائل في تعليم القراءة والكتابة؛ لأن التحفيظ فيها لم يكن عن طريق التشافه والحفظ في الصدور فحسب، وإنما كان عن طريق كتابة جزء من القرآن خمس آيات أو عشر آيات، أو عشرين آية في اللوح كل على حسب استعداده، وعلى قدر طاقته، وطريقة الحفظ عن طريق الكتابة أولا ثم الحفظ لا تجعل الصبي ينسى شيئا من القرآن فيما بعد، ومن ثم نرى أن الكتاتيب كانت أيضا من أعظم وسائل إزالة الأمية، لأن الصبي لكي يكتب لوحه لابد من تعلمه القراءة والكتابة أولا، وقد كانت الكتابة في اللوح تمرينا عمليا على إجادة القراءة والكتابة، وقد أجدت الكتابة في الكتاب من هذا الطريق ولله الحمد والمنة.
وكذلك كانت تعلم فيها مبادئ الدين الإسلامي، ولا أنسى قط درس الدين من يوم الخميس كل أسبوع يلقننا فيه الفقيه أو العريف أركان الإسلام المذكورة في الحديث المشهور الصحيح «بني الإسلام على خمس».
ونسب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وأبنائه وبناته، وفرائض الوضوء، وأركان الصلاة، والتشهد، ونحو ذلك، وكذلك كنا نتعلم فيها مبادئ الحساب، ولكن كان ذلك بقدر.
فلما أنشئت المدارس الأولية، ثم الإلزامية... بدأت الكتاتيب تضمحل شيئا فشيئا حتى أوشكت على الزوال، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وأحب أن أقول إن جمعيات المحافظة على القرآن الكريم، وإن كانت منتشرة في طول البلاد وعرضها. إلا أنها- والحق يقال- لم تغن غناء الكتاتيب في تحفيظ القرآن، لأن المنهاج المدرسي غلب عليها، وأصبح التحفيظ فيها عن طريق الحفظ في المصاحف، لا الكتابة في الألواح كما كان أسلوب التحفيظ في الكتاتيب، وتكاد تكون هذه الطريقة مندثرة اليوم في الديار المصرية بعد أن كانت هي المجلية والسابقة في هذا المضمار.

.طريقة تحفيظ القرآن الكريم في البلاد السودانية:

ومما يذكر بالاعتزاز والإكبار أن طريقة تحفيظ القرآن الكريم عن طريق الكتابة في الألواح والتصحيح على الفقيه، والعرض عليه مرارا، حتى يسمح له بالانتقال إلى كتابة جزء آخر من القرآن وحفظه، لا تزال في كثير من البلاد السودانية الشقيقة، ولا يزال كثير من إخواننا السودانيين يحتفظون بألواحهم للذكرى والتاريخ، ويعرضونها على الزائر لهم وهم في غاية الغبطة والسرور، ويعتبرون ذلك من المفاخر لهم.
وهناك كثيرون من أهل الصلاح والتقوى، والقرآن يجمعون المئات من الصبيان في كتاتيبهم التي يسمونها دار القرآن الكريم ويحفظونهم القرآن، ويتكفلون بهم طعاما، وسكنى، وكسوة، وقد زرت بعض هذه البيوت القرآنية وأنا بالجامعة الإسلامية بأم درمان أستاذا بها نسأل الله سبحانه أن تدوم هذه الكتاتيب القرآنية لتكون نارا محرقة لأعداء الله، وأعداء القرآن، ونورا يملأ قلوب حفاظ القرآن الكريم وطلابه، وأن يجزي القائمين عليها خير الجزاء، كفاء ما قدموه للقرآن.

.أمل ورجاء:

وقد كانت الديار المصرية زعيمة العالم الإسلامي في حفظ القرآن الكريم، وحذق قراءاته، وفي الكثرة الكاثرة من حفاظه وأهله، وكل ذلك كان بفضل الكتاتيب التي كانت تنتشر في كل مكان.
فهل يعمل القائمون على الشئون الدينية في الأزهر بكلياته ومعاهده، ومجمع البحوث الإسلامية. وفي وزارة الأوقاف. وفي المجلس الأعلى للشئون الإسلامية على إحياء هذه الكتاتيب ولاسيما في القرى التي كانت ولا تزال المورد الأكبر لحفاظ القرآن الكريم؛ وعلى النهوض بجمعيات المحافظة على القرآن الكريم. والإكثار من دروس تحفيظ القرآن الكريم وإنصاف القائمين على التحفيظ بها، وسد حاجاتهم حتى يقوموا بمهمتهم خير قيام.
إن ما يؤسف له أن المدارس التي كان يعتبر حفظ القرآن أساسا لدخولها كمدارس المعلمين أصبحت لا تشترط ذلك، ولم يبق اشتراط الحفظ إلا في الأزهر الشريف بمعاهده، وكلياته على تساهل كبير في هذا؛ فبعد أن كان الطالب الأزهري لا يلتحق بالفرقة الأولى الابتدائية إلا بعد حفظ القرآن كله وتجويده، أصبح الآن يكتفى بما دون حفظه كله، وقد يكتفي بالربع. وقد يكتفى بالأجزاء الثلاثة الأخيرة في المصحف وهي مصيبة من أعظم المصائب؛ لأنها تمس أصل الدين الإسلامي. ومنبع الصراط المستقيم.
إن في أوقاف المسلمين- وما أكثرها- التي وقفت على إنشاء الكتاتيب وتحفيظ القرآن الكريم ما يقوم ماليا بما يحتاجه إنشاء هذه الكتاتيب، والنهوض بجمعيات المحافظة على القرآن حتى تؤدي رسالتها كاملة.
بل في خزانة الدولة في بلد إسلامي عريق، وأهله مسلمون ما يقوم بذلك وإن الإنفاق في مثل هذا لخير ألف مرة مما ينفق بغير حساب في بعض الأبواب الأخرى، التي لا تفيد الشعب بقدر ما تضره.
بل في أريحية الخيرين من أبناء هذا البلد الإسلامي العريق ما يقوم بذلك، ولو دعوا دعوة جادة صادقة إلى هذا المشروع القرآني العظيم للبّوا سراعا عن طيب نفس.
لقد كان من التشريعات الموفقة في التعليم جعل الدين مادة أساسية من مواد التعليم يترتب عليها نجاح الطالب أو سقوطه، ولكن التشريعات لا تثمر ثمرتها إلا بالعمل، والتطبيق والتنفيذ ثم إن القدر المقرر حفظه على الطالب من القرآن الكريم شيء قليل مع التساهل في حفظه، ولو جعل لتحفيظ القرآن حصص خاصة لكان أجدى وأنفع، ولو كلف التلميذ في الابتدائي والإعدادي والثانوي بجزء من القرآن كل عام- وليس حفظ الجزء بالأمر المعجز- لوصل التلميذ إلى الكليات الجامعية والمعاهد العليا وقد حفظ قسطا كبيرا من القرآن ثم يتم الباقي في الجامعة.
وللإنصاف للتلاميذ أرى أنه لابد لكي يمكن تحقيق ذلك أن يزاح عن كاهلهم بعض ما يكلفون به من علوم لا تفيد عشر معشار ما يفيده القرآن الكريم في بناء الأمة دينيا، ودنيويا، وخلقيا واجتماعيا.
ترى أيها القارئ المنصف لو أن هذا الاقتراح نفذ في الأقطار الإسلامية والعربية لأرضت ربها ورسولها، ولكانت الأمة الإسلامية بحق خير أمة أخرجت للناس، إنها لآمال وأماني فهل تتحقق؛ ذلك ما نرجو، وما ذلك على الله بعزيز.